ص -66- باب تفسير التوحيد وشهادة ألا إله إلا الله (1)
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (2) الآية 1.
..................................
(1) عطف الشهادة على التوحيد من عطف الدال على المدلول؛ فإن التوحيد هو معنى لا إله إلا الله ومدلولها مطابقة، يعني باب بيان إيضاح التوحيد، توحيد الإلهية والعبادة؛ لأنه هو المقصود بالذات من تصنيف الكتاب، وبيان مدلول شهادة ألا إله إلا الله من النفي والإثبات، وما تضمنته من إخلاص العبادة لله وحده دون ما سواه، فالتفسير تارة بذكر ما تحت اللفظ من معنى، وتارة بذكر الضد والمنافي; فإن قيل: قدم في أول الكتاب ما يبين معنى لا إله إلا الله وما تضمنته من التوحيد، فما فائدة هذه الترجمة؟ قيل: في هذه الآيات التي في هذا الباب بخصوصها مزيد بيان لمعنى كلمة الإخلاص، وما دلت عليه من توحيد العبادة، والحجة على من تعلق على الأولياء والصالحين.
(2) يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها وهو قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} 2 صيغة عموم شمل كل مدعو من دون الله من الأنداد، وارغبوا إليهم، فإنهم يعني جميع من يدعي من دون الله: {فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ} 3 أي بالكلية (ولا تحويلا) أي ولا يحولونه إلى غيركم؛ فإن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له، فهو المستحق أن يفرد بجميع العبادة.: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} 4 أي يدعوهم أهل الشرك، ممن لا يملك كشف الضر ولا تحويله من الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم، عباد أمثالهم مقهورون مربوبون. (فالذين) اسم موصول =
-----------------------ـ
1 سورة الإسراء آية : 57.
2 سورة الإسراء آية : 56.
3 سورة الإسراء آية : 56.
4 سورة الإسراء آية : 57.
ص -67- ...............................................
= يتناول كل مدعو من دون الله. قال ابن عباس: " كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا "، والذين هم يدعون: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1 أي يتبارون في طلب القرب، فيطلبون القرب من الله بالإخلاص له، وطاعته فيما أمرهم به، وترك ما نهاهم عنه. وقال ابن عطية: أخبر تعالى أن هؤلاء المعبودين يطلبون التقرب إلى الله، والتزلف إليه، فـ(أيهم) مبتدأ وخبره (أقرب) و(أولئك) يراد بهم المعبودون، وهو مبتدأ، وخبره (يبتغون)، والضمير في (يدعون) للكفار، وفي (يبتغون) للمعبودين، و (الوسيلة) ما يتقرب به، وتوسل إلى الله عمل عملا تقرب به إليه، ولما أعد الله لأوليائه الكرامة، جعل لذلك وسيلة، وهي عبادة الله بامتثال ما أمر به، وأعظم القرب التوحيد الذي بعث الله به رسله، وهو الذي يقربهم إلى الله أي إلى عفوه ورضاه، ووصف ذلك بقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 2 فلا يرجون أحدا سواه، ولا يخافون غيره. قال شيخ الإسلام: (( فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين، سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها، فقد تناولته هذه الآية كما تتناول من دعا الملائكة والجن، فقد نهى الله عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلى موضع آخر كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال: (ولا تحويلا) فذكر نكرة تعم أنواع التحويل، فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة فقد دعا من لا يغيثه، ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله )) ا هـ.
فإذا كان دعاء الأولياء والصالحين شركا، عرفنا أن التوحيد هو دعاء الله وحده لا شريك له، فكان في هذه الآية تفسير التوحيد، وأنها دلت على أن دعوة الله وحده هي التوحيد، وهذا وجه مطابقة الآية للترجمة، وهو تفسير الشيء بضده.
-----------------------ـ
1 سورة الإسراء آية : 57.
2 سورة الإسراء آية : 57.
ص -68- وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} (1) الآية1.
وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) الآية 2.
..................................
(1) وتمامها: {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 3 في ذريته من بعده، يدينون بها (لعلهم يرجعون) إليها، والكلمة هي: لا إله إلا الله بإجماع أهل العلم. وقد عبر عنها الخليل بمعناها الذي أريدت به، فعبر عما نفته بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 4، وعما أثبتته بقوله: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} 5 أي خلقني، فقصر العبادة على الله وحده، ونفاها عن كل ما سواه ببراءته من ذلك. قال ابن كثير: (( هذه الكلمة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله، جعلها في ذريته، يقتدي به فيها من هداه الله منهم، ففي الآية معنى لا إله إلا الله مطابقة، فإن هذه اللام تسمى لام النفي، ولام التبرئة، فتبين أن معناها النفي والإثبات، والتجريد والتفريد، والولاء والبراء، وتبين أن معنى لا إله إلا الله توحيد الله بإخلاص العبادة له، والبراءة من عبادة كل ما سواه )) .
(2) الأحبار العلماء، والرهبان هم العباد، وجعلوهم مشرعين في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل، فصاروا بذلك أربابا؛ لأن التشريع من خصائص الربوبية، كما أن العبادة من مستحقات الربوبية، وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية لعدي لما قال: إنهم لم يعبدوهم، فقال: " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم "6. رواه أحمد وغيره، وحسنه الترمذي. وقوله: (والمسيح ابن مريم) أي اتخذوه ربا بعبادتهم له.: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 7. فدلت على أن من أطاع غير الله في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحله فقد اتخذه ربا ومعبودا، وجعله لله شريكا، وذلك ينافي التوحيد، فكل معبود رب، وكل مطاع ومتبع على غير ما =
-----------------------ـ
1 سورة الزخرف آية : 26.
2 سورة التوبة آية : 31.
3 سورة الزخرف آية : 28.
4 سورة الزخرف آية : 26.
5 سورة الزخرف آية : 27.
6 الترمذي : تفسير القرآن (3095).
7 سورة التوبة آية : 31.
ص -69- ...............................................
= شرعه الله ورسوله فقد اتخذه المطيع ربا ومعبودا، والرب هو المعبود، ولا يطلق معرفا إلا على الله تعالى، قال تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 1 وهذا وجه مطابقة الآية للترجمة، أن من اتخذ شخصا يحلل ما حلل، ويحرم ما حرم فهو مشرك. والتوحيد الذي هو مدلول شهادة ألا إله إلا الله هو إفراد الله بالطاعة في تحريم ما حرم، وتحليل ما حلل، وهذه الآية كقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 2 يعني وأنتم كفار، ونحن بريئون منكم، وأنتم بريئون منا.
قال شيخ الإسلام: (( وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرمه الله، أو تحريم ما أحل اتباعا لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله الله شركا.
الثاني: أن يكون اعتقادهم بتحريم الحلال، وتحليل الحرام ثابتا؛ لكونهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما ثبت "إنما الطاعة في المعروف"، ثم ذكر المحرم للحلال إن كان مجتهدا قصده اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن خفي عليه الحق، وقد اتقى الله، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، ولكن من علم أن هذا خطأ ثم اتبعه، وعدل عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم فله نصيب من هذا الشرك، لاسيما إن اتبع في ذلك هواه، ونصره باليد واللسان، مع علمه بأنه مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم فهذا شرك، وإن كان المتبع للمجتهد عاجزا، وفعل ما يقدر عليه فلا يؤاخذ إن أخطأ )).
-----------------------ـ
1 سورة الأنعام آية : 121.
2 سورة آل عمران آية : 64.
ص -70- وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (1) الآية 1 .
..................................
(1) (من) للتبعيض، أي فريق من الناس، وقد ذكر حال المتخذين الأنداد على سبيل الذم، فإنه ذكر حال المشركين حيث جعلوا لله أندادا، أي أمثالا ونظراء يعبدونهم معه و (يحبونهم كحب الله) أي يسوونهم في المحبة المقتضية الذل للمحبوب، والخضوع له كحب الله. وهو الله لا إله إلا هو، لا ضد له، ولا ند له، ولا شريك له، وكل من صرف من العبادة شيئا لغير الله رغبة إليه، أو رهبة منه فقد اتخذه ندا لله، وفي الصحيحين: عن ابن مسعود مرفوعا قال: " أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك "2.:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 3 من أصحاب الأنداد لأندادهم، ولحبهم له، وتمام معرفتهم به لا يشركون به شيئا، بل يعبدونه وحده. ثم توعد المشركين فقال: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} 4 يقول: لو علموا ما يعاينونه هنا، وما يحل بهم من الأمر الفظيع على شركهم، لانتهوا عما هم فيه من الضلالة.
قال المصنف: (( ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند حبا أكبر من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله ؟ )) ا هـ. فمن أشرك مع الله غيره في المحبة فقد جعله شريكا لله في العبادة، واتخذ ندا من دون الله، وذلك هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه لقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 5 والمراد محبة التأله والتعظيم المختصة برب العالمين، التي هي إحدى القاعدتين اللتين عليهما مدار العبادة كما قال ابن القيم:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
-----------------------ـ
1 سورة البقرة آية : 165.
2 البخاري : الأدب (6001) , ومسلم : الإيمان (86) , والترمذي : تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي : تحريم الدم
(4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود : الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464).
3 سورة البقرة آية : 165.
4 سورة البقرة آية : 165.
5 سورة البقرة آية : 167.
ص -71- وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه(1)
..................................
= إلى أن قال:
ليس العبادة غير توحيد المح بَة مع خضوع القلب والأركان
وهذا هو الذي اعترف به المشركون، وهم بين أطباق الجحيم، أنهم صاروا في الجحيم بسببه حيث قالوا: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1، ومن المعلوم أنهم ما ساووهم به في الحلق والتدبير، إنما ساووهم به في هذه المحبة، فدلت الآية على أن من اتخذ ندا مع الله يحبه كمحبة الله فقد أشرك الشرك الأكبر المنافي للتوحيد، فإذا عرفنا أن هذا شرك، فالتوحيد ضده، وهو أن يفرد الرب بهذه المحبة المختصة التي هي التوحيد، وبذلك ظهر معنى التوحيد وتفسيره، وشهادة ألا إله إلا الله. وأما محبة الملائمات وهي المحبة الطبيعية فلا تكون شركا، ويأتي بيان ذلك في بابه إن شاء الله تعالى.
(1) أي وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو مالك اسمه سعد بن طارق، كوفي ثقة مات في حدود الأربعين ومائة، وأبوه طارق بن أشيم الأشجعي صحابي له أحاديث. ورواه أحمد بلفظ " من وحد الله، وكفر بما يعبد من دون الله "2 فهذا يفسر لا إله إلا الله، فعلق صلى الله عليه وسلم عصمة المال والدم في هذا الحديث بأمرين: الأول: قول لا إله إلا الله عن علم ويقين، كما قد قيد ذلك في قولها في غير ما حديث، فإن من قالها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل وجود النفاق، لا يقولها إلا عن صدق وعمل بها، وعلم بما دلت عليه من النفي والإثبات. والثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لا بد من قولها والعمل بها، والبراءة مما ينافيها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم علق عصمة الدم بالأمرين جميعا، قولها عن علم ويقين، والكفر بما =
-----------------------ـ
1 سورة الشعراء آية : 98.
2 مسلم : الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394).
ص -72- ...............................................
= يعبد من دون الله، ففيه أنه لا يحرم ماله ودمه إلا إذا قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، فإن قالها ولم يكفر بما يعبد من دون الله لم يأت بما يعصم ماله ودمه، وفيه معنى قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} 1. قال المصنف: (( وهذا من أعظم ما يبين لك معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أجلها وأعظمها، ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع )) ا هـ. وهذا هو الشرط المصحح لقول لا إله إلا الله، فلا يصح قولها بدون هذه الخمس التي ذكر أصلا، ق-ال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 2، وقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 3 الآية، أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قوتلوا إجماعا، بل أجمعوا على أن من قال: لا إله إلا الله ولم يعتقد معناها، ولم يعمل بمقتضاها، أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات.
وفي الصحيحين: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "4. وفي رواية: " ويؤمنوا بي وبما جئت به "5، فلا بد من الإيمان بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأيما طائفة امتنعت عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، فإنه يجب قتالها كما قاتل أبو بكر مانعي الزكاة، واتفق عليه الصحابة والفقهاء، ويكفي المنصف ما ذكره العلماء من كل مذهب في باب حكم المرتد، فإنهم ذكروا فيه أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان. والكفر لغة الستر، وكفر يكفر كفرا وكفرانا: ضد آمن، وسمي الكافر كافرا لأنه مغطى على قلبه، وشرعا: تكذيبه صلى الله عليه وسلم في شيء مما جاء به.
-----------------------ـ
1 سورة البقرة آية : 256.
2 سورة الأنفال آية : 39.
3 سورة التوبة آية : 5.
4 البخاري : الإيمان (25) , ومسلم : الإيمان (22).
5 مسلم : الإيمان (21).
ص -73- وحسابه على الله عز وجل "1 (1). وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب (2).
..................................
(1) أي الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى حسابه، وهو المطلع على السرائر، فإن كان صادقا جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقا عذبه العذاب الأليم. وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن أتى بالتوحيد والتزم شرائعه ظاهرا، وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك.
(2) ترجمة الكتاب فاتحته، وشرحها تفسيرها وتبينها، وتوضيح معناها; وذلك أن ما بعدها فيه ما يبين التوحيد، ويوضح معنى لا إله إلا الله، وفيه بيان أشياء كثيرة من الشرك الأصغر والأكبر، وما يوصل إلى ذلك من الغلو والبدع وتنزيه الرب تعالى عما لا يليق بجلاله، وقد جمع -رحمه الله- في هذا الكتاب على اختصاره من بيان التوحيد ما لم يسبقه إليه سابق، ولا لحقه فيه لاحق، وما لا يعذر أحد عن معرفته، فمن استحضره استغنى به عن غيره في بيان التوحيد، والرد على كل مبتدع.
-----------------------ـ
1 مسلم : الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394).